فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا وقيل: معنى الآية وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به، ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب.
وفي (الإرشاد) أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسباقه، وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به السنة المقبولة، وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه، وذلك بأن يقال: إنه عز وجل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه: {تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} [الواقعة: 80] فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب الدال على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا.
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناءًا على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز وجل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالًا ولا اشتراكًا قال عز قائلًا: أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به، ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلًا فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيبًا به مما لا ينتطح فيه كبشان، وهذا لا تمحل فيه، وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون {تُكَذّبُونَ} على معنى تكذبون بكونه أي المطر من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه، المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أنتم مدهنون أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس والزجاج ومن ذلك أنكم {تجعلون} موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء، والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من {بِهَا تُكَذّبُونَ} أو من قوله سبحانه: {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} [الواقعة: 81] لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم، وحال عطف {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 82] على ما قبله لا يخفى على نبيه، فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم.
وقرأ المفضل عن عاصم {تكذنون} بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه وحاشاه افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر: إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه، وقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} الخ. تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى: {نَحْنُ خلقناكم} [الواقعة: 57] إلخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم ولولا للتحضيض بإظهار عجزهم، و{إِذَا} ظرفية، و{الحلقوم} مجرى الطعام؛ وضمير {بَلَغَتِ} للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل، والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية، وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين، ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء: 85] جسم لطيف جدًا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام، وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح، ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر.
وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل: المراد به ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل: فلولا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن.
{وَأَنتُمْ} أيها الحاضرون حول صاحبها {حِينَئِذٍ} أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها {تَنظُرُونَ} إلى ما يقاسيه من الغمرات، وقيل: {تَنظُرُونَ} حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك.
وقرأ عيسى {حينئذٍ} بكسر النون اتباعًا لحركة الهمزة في إذ.
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي المحتضر المفهوم من الكلام {مّنكُمْ} والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للاطلاع والعلم، وقال غير واحد: المراد القرب علمًا وقدرة أي نحن أقرب إليه في كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدّة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئًا ونحن المستولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت {ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلكم بشؤوننا وقد علمت أن الخطاب للكفار، وقيل: لا تدركون كنه ما يجري عليه على أن الاستدراك من {تنظرون} [الواقعة: 84]؛ والإبصار من البصر بالعين تجوّز به عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب، وقيل: أريد بأقربيته تعالى إليه منهم أقربية رسله عز وجل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه ويعالجون إخراجها أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرونهم.
{فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم، ومنه قيل للعبد: مدين وللأمة مدينة قال الأخطل:
ربت وربا في حجرها ابن مدينة ** تراه على مسحاته يتركل

والكلام ناظر إلى قوله تعالى: {نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ} [الواقعة: 57]، وقيل: هو من دان بمعنى انقاد وخضع، وتجوز به عن الجزاء كما في قولهم كما تدين تدان أي فلولا إن كنتم غير مجزيين وجعل ناظرًا لإنكارهم البعث وليس بشيء.
{تَرْجِعُونَهَا} أي الروح إلى مقرها والقائلون بالتجرد يقولون أي ترجعون تعلقها كما كان أولًا.
{إِن كُنتُمْ صادقين} في اعتقادكم عدم خالقيته تعالى فإن عدم تصديقهم بخالقيته سبحانه لهم عبارة عن تصديقهم بعدمها على مذهبهم، وفي (البحر) وغيره إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي والمميت المبدىء المعيد ونسبتكم إنزال المطر إلى الأنواء دونه عز وجل، وترجعون المذكور هو العامل بإذا الظرفية في {إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] وهو المحضض عليه بلولا الأولى، و{لَوْلاَ} الثانية تكرير للتأكيد، و{لَوْلاَ} الأولى مع ما في حيزها دليل جواب الشرط الأول أعني {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86] والشرط الثاني مؤكد للأول مبين له، وقدم أحد الشرطين على {تَرْجِعُونَهَا} للاهتمام والتقدير فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين صادقين فيما تزعمونه من الاعتقاد الباطل فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم وحاصل المعنى أنكم إن كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأفعالكم فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم وتردونها كما كانت بقدرتكم أو بواسطة علاج للطبيعة، وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84] جملة حالية من فاعل {بَلَغَتِ} [الواقعة: 83] والاسمية المقترنة بالواو لا تحتاج في الربط للضمير لكفاية الواو فلا حاجة إلى القول بأن العائد ما تضمنه حينئذٍ لأن التنوين عوض عن جملة أي فلولا ترجعونها زمان بلوغها الحلقوم حال نظركم إليه وما يقاسيه من هول النزع مع تعطفكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك، وقوله سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} [الواقعة: 85] إلخ اعتراض يؤكد ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم سبحانه منهم، وفي جواز جعله حالًا مقال.
وقال أبو البقاء: {تَرْجِعُونَهَا} جواب {لَوْلاَ} الأولى، وأغني ذلك عن جواب الثانية، وقيل: عكس ذلك.
وقيل: {إِن كُنتُمْ} شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدمًا في التقدير أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مربوبين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان وما ذكرناه سابقًا اختيار جار الله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَبِهَذَا الْحَديث أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)}.
الفاء تفريع على ما سِيق لأجله الكلام الذي قبلها في غرضه من التنويه بشأن القرآن، وهو الذي بِحذو الفاء، أو من إثبات البعث والجزاء وهو الذي حواه معظم السورة، وكان التنويهُ بالقرآن من مسبَّبَاته.
وأطبق المفسرون عدا الفخر على أن اسم الإشارة وبيانه بقوله: {فبهذا الحديث} مشير إلى القرآن لمناسبة الانتقال من التنويه بشأنه إلى الإِنكار على المكذبين به.
فالتفريع على قوله: {إنه لقرآن كريم} [الواقعة: 77] الآية.
والمراد بـ {الحديث} إخبار الله تعالى بالقرآن وإرادة القرآن من مثل قوله: {أفبهذا الحديث} واردة في القرآن، أي في قوله في سورة القلم (44) {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وقوله في سورة النجم (59) {أفمن هذا الحديث تعجبون} ويكون العدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة بقوله: {أفبهذا الحديث} دون أن يقول: أفَبِهِ أنتم مُدْهنون، إخراجًا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لتحصل باسم الإشارة زيادة التنويه بالقرآن.
وأما الفخر فجعل الإِشارة من قوله: {أفبهذا الحديث} إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى: {وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا إنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون} [الواقعة: 47، 48]، فإن الله رد عليهم ذلك بقوله: {قل إن الأولين والآخرين} [الواقعة: 49] الآية.
وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله: {إنه لقرآن كريم} [الواقعة: 77] ثم عاد إلى كلامهم فقال: أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به أنتم مدهنون لأصحابكم. اهـ، أي على معنى قوله تعالى: {وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا} [العنكبوت: 25].
وإنه لكلام جيّد ولو جَعل المراد من (هذا الحديث) جميع ما تقدم من أول السورة أصلًا وتفريعًا، أي من هذا الكلام الذي قرع أسماعكم، لكان أجود.
وإطلاق الحديث على خبر البعث أوضح لأن الحديث يراد به الخبر الذي صار حديثا للقوم.
والتعريف في {الحديث} على كلا التفسيرين تعريف العهد.
والمُدهِن: الذي يُظهر خلاف ما يبطن، يقال: أدهن، ويقال: دَاهنَ، وفسر أيضًا بالتهاون وعدم الأخذ بالحزم، وفسر بالتكذيب.
والاستفهام على كل التفاسير مستعمل في التوبيخ، أي كلامكم لا ينبغي إلا أن يكون مداهنة كما يقال لأحد قال كلامًا باطلًا: أتهزأ، أي قد نهض برهان صدق القرآن بحيث لا يكذب به مكذب إلا وهو لا يعتقد أنه كذب لأن حصول العلم بما قام عليه البرهان لا يستطيع صاحبُه دفعه عن نفسه، فليس إصراركم على التكذيب بعد ذلك إلا مداهنة لقومكم تخشون إن صدّقتم بهذا الحديث أن تزول رئاستكم فيكون في معنى قوله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33].
وعلى تفسير {مدهنون} بمعنى الإِلانة، فالمعنى: لا تتراخوا في هذا الحديث وتدبروه وخذوا بالفور في اتباعه.
وإن فسر {مدهنون} بمعنى: تكذبون، فالمعنى واضح.
وتقديم المجرور للاهتمام، وصوغ الجملة الاسمية في {أنتم مدهنون} لأن المقرّر عليه إدْهان ثابت مستمرّ.